اللوحة الأولى؛ اللقاء الذي كان مؤجلا
القلب يخفق بشدة و قد اقتربت الطائرة من مطار "تيندوف" ، ها أنذا أرى المدينة الشهباء الممتدة عبر "لحمادة"1 , لكن عـيني كانتا تبحثان عن أمر آخر، تتنقلان بسرعة عـلّهما تعثران على مدينة من الخيّم تسكن بإزاء تيندوف منذ عقود دون أن تتماهى معها، لأن قلوب ساكني تلك الخيم متعلقة بارض أخرى غير هذه، متعلقة بالأرض التي ودعـتها للتو.
حطّت الطائرة في المطار وتلقفتنا سيارات دفع رباعي انطلقت تطوي الأرض، إلا أن عيني كانتا تسبقان السيارة والقلب في عجلة و تحفز و رهبة، هي رهبة اللقاء الأول بعد أربعين سنة من الفراق.
ترى كيف هي أمّي الآن؟ وهل سأعرفها من أول نظرة و قد حال الإحتلال و جدران الفصل المخزي دون لقاءنا كل هذه المدة؟ هل أتمكن من معرفتها وهي التي تركتني مرغمة عند الجدة قبل أن تغامر على قدميها، رفقة آخرين، متجهة حيث الثوار لتشارك في التحرير، وقد كنت حينها لا أزال رضيعة.
الجدة كانت تحكي الكثير عن الأم.
في الليالي الباردة نتحلق حولها نحن الصبية لتحكي لنا حكاياها الغريبة عن "سريسر ذهبو" وعن "شرتات" و "القنفد الذكي والذئب الغبي" ..وغيرها، لكن أحب الحكايات إليها كانت عن الأم التي غادرتنا ذات يوم حزين ملتحفة بظلام الليل الدامس لتلتحق بالجبهة(2)، وغالبا ما تنهي حكايتها عن الأم بدمعة تأخذ مجراها على الخد المتعب الذي خط تجاعيده الزمن القاسي، زمن الإحتلال و عذاباته.
تمسح الجدة الدمعة بيد مرتعشة وهي تررد دائما نفس الجملة "أصعب ما يحز في نفسها أنها لم تستطع أن تأخذك معها، فقد فضلت فراقك، المرّ عليها، على أن تموتي في رحلة محفوفة بالمخاطر، لا تعرف هي كيف ستنتهي"..ثم سرعان ما تحاول الجدة تغيير دفة الحديث الذي خيمت عليه ألوان الكآبة والحزن لتقول لي وهي تضمني " هي الآن حية ترزق هنالك في مخيمات العزة و الكرامة، وأنا مسرورة بوجودك معي. كيف سيكون حالي لو لم تكوني معي يا قرة عيني"، تقول ذلك وهي تضمني إلى صدرها بكل ما أوتيت من قوة ثم تدفن رأسي حتى لا أرى سيل الدمع الذي ينساب مع تجاعيد الوجه الحزين..لكنها لا ترى دموعا تنهمر من عيني مع كل إطباقة لجفوني وأنا متأثرة لحالها و لحالي ولحال أم ودعت رضيعتها مرغـمة.
و اليوم حان موعد لقائي بأم لم أرها منذ عقدين من الزمن، أحمل لها كثيرا من الشوق و وتقاسيم وجهي تحمل رسالة حزينة ستقرأ حروفها دون أن أنطق بكلمة؛ فقد رحلت الجدة عن عالمنا دون أن تتمكن من رؤية ابنتها.
فجأة تدوي زغاريد تعانق السماء، تخرجني من عالم الذكريات، فأتطلع إلى ما حولي , ربّاه..ها أنذا محاطة بخيّم الصمود التي تقض مضجع الإحتلال وزبانيته!.
تقف السيارة عند خيمة تنتصب أمامها بيوت صغيرة بنيّت على عـجل من الطوب ، يخرج كلّ من في الخيمة مندفعا نحونا ، يتحلق حولنا أطفال يتقافزون فرحا ، الرجال تسبقهم ابتساماتهم وفرحة تعاند الوقار ، أما النساء فأخذنا يندفعن نحونا وألسنتهن تصدر زغاريدا تشق عنان السماء، ومن بينهن تتقدم امرأة في عقدها السادس تحتضنني بقوة و هي تصيح بأعلى صوتها كمّن أصابه مسّ : "منتي، منتي ..يا سعدي ألّا منتي..".. كنت حينها في ذهول من أمري , لطالما حضّرت نفسي للموقف ، والآن هاأنذا أقف مشلولة وقد عقدت الدهشة لساني ولم أحر جوابا , إلّا أنني مددت ذراعيّ و ضممت الأم وأنا أدفن رأسي في حضنها ، كما كنت أفعل قبلا حين أحضن جدتي، وألفيت عيني تذرفان الدموع السخان في صمت , دموع السعادة باللقاء الذي طالما انتظرته.
ـ تتبع بلوحة أخرى ـ
تكتبها : مجهولة المصير...
1الحمادة: ارض صحراء , قاحلة على العموم , ذات مناخ قاس , حار صيفا و بارد شتاء, تنعدم فيه التساقطات المطرية الا في مواسم نادرة , و بالتالي يختفي الغطاء النباتي .
2الجبهة: الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب , المعروفة اختصارا بالبوليساريو.
لست ابدا مجهولة المصير فمصيرك حتميو اكيد مسطر بدم قان فقط ينتظر اللحظة المناسبة ليقول له كن فيكون . لوحة من جملة لوحات مأسي هذا الشعب المكافح . سلم قلمك
ردحذف