تقول ابنة الصحراء الغربية، الفتاة التي تكاد تبلغ الثامنة عشرة من العمر، في الفيلم الوثائقي «فقط لنبلغكم بأننا ما زلنا أحياء» (2013 إخراج الإيطاليتين سيمونا غيزوني وإيمانويلا زوكالا): لم تعد تهمّنا العذرية، ولا أي مساحة أخرى من جسمنا. نحن نقاتل من أجل الحرية، والاستقلال.
الفيلم يروي نضال الشعب الصحراوي و«جبهة البوليساريو» ضد الحكومة المغربية. وقد أتى تصريحها هذا في سياق الكلام عن التعذيب الذي لقيته النساء الصحراويات على أيدي الأمن المغربي، وهو تعذيبٌ يستحضر ما يرويه المناضلون الفلسطينيون عن السجون الإسرائيلية، معطوفاً على ما يرويه الخارجون من سجون «البعث» والديكتاتوريات العربية. ومع أن التعذيب في هذه الحالة بلغ مواطئ تكاد تستحيل كتابتها، إلا أن التعذيب الجنسي لم يبدُ كأنه أصعبها، ولا بدت له «قيمة» خاصة على لسان 12 إمرأة عرض الفيلم قصصهن، بطولاتهن، ومسؤولياتهن الراهنة. إن قوّة هؤلاء النساء، وضوح معانيهن والأفكار، صرامة التزامهن وهدوء أرواحهن، تجعل لون السماء يبتسم لهنّ. الأربعينيات منهن لا يزلن يؤمنّ بإمكانية التحرير بطرق أكثر سلميّة. الشابات ما عدن يؤمنّ بذلك، بعدما رأين الجنود المغاربة يحرقون خيم الاعتصام السلمي، ويقتلون بلا اكتراثٍ إلا لتلقين آلاف المعتصمين في خيمهم درساً في الانضباط تحت سلطة المحتلّ، درساً في الطاعة.

كورقة خريف صفراء

بعد ستة وستين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبرغم حضور هذه الفكرة ـ بالتأكيد ـ في أذهانٍ كثيرة، إلا أنه استحال ويكاد يستحيل على امرأة، مهما بلغ سنّها أو نضالها، أن تخرج إلى ضوء الكاميرا، وتنظر إليها العين بالعين، وتبلغ الناظرين والسامعين بأن هذه العذرية لا تعنيني. لا تهمنا وما عدنا نكترث لها. حتى في سياق التعذيب، ترى العرب يركضون دوماً للاطمئنان على عذرية أسيراتهن. ولو تعرّض رجلٌ لتعذيبٍ جنسيّ في الأسر، فهو لن يسرد ذلك، وإذا عُرف ذلك، فهو ضمناً وفي الأماكن شبه المغلقة يصبح مادة سخرية مرتبكة في مضمونها بين «رجال» القضايا الحامية.
ما فعلته هذه الفتاة الصحراوية، في لحظةٍ من لحظات الفيلم، هو أنها أوضحت سهولة القول وصلابة النضال. لا هي ابنة بيئة متحرّرة، ولا هو مجتمعٌ غربيّ. هي تقيم في واحدة من أصعب القضايا، وفي امتداد هذه المنطقة، وتحت سلطة الدين. ومع ذلك، فإن العذرية التي يتعذّب تقدميو العرب وهم يفنّدون «لا معناها»، تراها تُلقى من فم صبيّةٍ شابّة جداً، كزفيرٍ لهواء الملل. فموضوعها هو الحرية. الاستقلال. وعندما تُسمعُ كلماتها، تبدو لكل بدعةٍ قمعية نهاية، من الاحتلال المغربي للصحراء حتى عذرية جسم المرأة.
ولا تأتي هذه الفتاة وحدها، وإنما هي تأتي بصحبة مجموعة من النساء لا تعرف العين من تعشق منهن قبل الأخرى. كلهنّ خضن النضال. سُحبن من بيوتهن. رُمين خلال سنوات الخصوبة في أسوأ أنواع المعتقلات. تقول سيدة منهن إنها رأت في صور التعذيب والإذلال الأميركيين لسجناء «أبو غريب» العراقي بعضاً من ذكرياتها. العري، الكلاب، الحبال، الـ... وأسوأ. تقول أخرى إنها تعرّفت إلى زوجها في المعتقل، وأحبته لمّا أحبّها بحالها هذه. وما هي حالها هذه؟ اختراعٌ سافل في التعذيب أفقدها شعرها، ناهيك عن تسميمه لجسدها. أحبّها بلا شعر، وهي أحبته لقدرته على رؤيتها برغم التشويه، ولأشياء أخرى.
هذا «التشويه» ليس جلياً للعين، فسيدات الصحراء ملفوفات بملابسهن، من الرأس حتى أخمص القدمين. ألوانٌ بهيّة، وطبيعة موجبة. لا يغفلن الدين، وواحدةٌ تعتذر عن إظهار آثار التعذيب على جسمها، لأن دينها يمنعها من تعرية نواحي الجسم أمام كاميرا. ويبدو المجتمع ميالاً إلى التديّن، أسوة بالمجتمعات الإسلامية المحافظة. ولكن، تراهن العين أقل تردّداً أمام تابوهات جسم المرأة في الحاضر العربي. فإلى إسقاط حديث العذرية كما تسقط ورقة خريفٍ صفراء عن شجرة، افتتحت الفيلم سيدةٌ تروي عن الأمن يسحبها من بيتها ليلاً، بينما ثديها لا يزال ممتلئاً بحليب تتغذى منه رضيعتها. تقول إن صدرها آلمها لامتلائه بالحليب، بينما ابنتها تنوء جوعاً، لا يبلغها الحليب. الطفلة توفيت قبل بلوغها العام، لأنها كانت تعاني من حساسيةٍ توجب عليها تناول حليب الأم، ومن تفاقمات أخرى. توفيت طفلتها بينما هي تقضي سنتها الأولى في السجن. لا تجد في هذا الموت معنى إلا ضمن سياق النضال من أجل الاستقلال.

الشبه المحكي

قضين في السجون من 11 إلى 15 عاماً، حرصت السلطات المغربية على توقيتها في موعد خصوبة المرأة. معظمهن كنّ متزوجات للتوّ أو على وشك الزواج، معظمهن كنّ أمهات للمرة الأولى، الثانية، أو لم يلدن بعد. وقد خرجن من السجن بحالات تستوجب العلاج، العلاج الطويل والمضني أحياناً. جميعهن، حوربت فيهنّ القدرة على الإنجاب أيضاً. فإذا كان الإسرائيليون يستوردون «المواطنين» كلما ازداد عدد الفلسطينيين بينهم، فإن السلطة المغربية ارتأت اعتماد خطّةٍ بديلة.
إلى ذلك، يمكن للمرء تشبيه النضال الصحراويّ بالنضال الفلسطينيّ على أكثر من مستوى آخر، مع حفظ خصوصية كلّ حالة وعدم الجنوح إلى إجراء تطابقٍ بين النضالين. أولاً، الاستعمار الإسباني الذي سلّم الدفّة للاستعمار المغربي، تماماً كما سلّم الاستعمار البريطاني الأرض لاحتلال يرثه. تقول المرأة: نناضل منذ عقود، لأن الإسبانيين أرادوا جعلنا إسبانيين، والمغربيين أرادوا جعلنا مغاربة، ونحن لسنا هذا ولا ذلك، نحن صحراويين، ولا نريد أن نكون غير ما نشعر به، ولذلك حاربنا الإثنين. تجدر الإشارة هنا إلى غنى الأرض الصحراوية بالمعادن، الفوسفات تحديداً، ليبقى الاستغلال الاقتصادي المقرون بتفقير أصحاب الموارد، هو أحد أبرز أسباب الاستعمار ثم الاحتلال. ثانياً، على مستوى التشابه مع فلسطين، يأتي الجدار. بنت الحكومة المغربية جداراً عازلاً، وأحاطته بالألغام، ليفصل لاجئي الصحراء في الخيم والجزائر عن المقيمين في مدن الصحراء تحت الاحتلال المغربي، ومعظمهم يقيم في مدينة العيون، أكبر مدن الصحراء الغربية.
مخيمات اللاجئين بحدّ ذاتها موقع شبهٍ. رفض الاعتراف بالهوية، هوية الشعب. القمع العنيف لأيّ احساس ـ قبل الفعل حتى ـ بالاستقلالية. ناهيك عن العَلَم! عَلَم الاستقلال الصحراوي هو علم فلسطين، مضافاً إليه الهلال ونجمة في المثلث الأحمر. والناس هناك يحكون عن مقاتلي «جبهة البوليساريو»، تماماً كما حكى الناس عن «منظمة التحرير» في ظروف حياتها الأولى، لمّا كانت «الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني». كما أنهم قد اخترعوا دولتهم وأعلنوا استقلالها في خيم اللجوء. وزعوا المناصب، فنرى وزيرة الثقافة تطبع اللغة وهي جزء من الهوية والنضال، ونرى مسؤولة المطبوعات تحكي عن استمرار النضال، نرى نساءً في مناصب لا تأتي بالغنى والسلطة، وإنما بتعبٍ كثير ونضالٍ مستمر. تراهنّ يؤكدن الهوية عبر اختراع سبل ممارستها، ويؤكدن الاستقلال عبر تعميق القطيعة بين خطاب المستعمِر عنهن وخطابهنّ عن أنفسهن. فلا يلتقيان إلا في مواجهة.

الذنب تجاه الجهل

يمضي الذهن في أثناء متابعة الفيلم بشعورٍ يتجاذبه طرفان: الأول، هو التطابق مع فلسطين، والثاني هو الذنب من الجهل. تجتاح الجسم رغبة بمزيدٍ من المعرفة، وبحسّ المبادرة، وبالتحزّب لقضيةٍ «سمعنا عنها» الكثير ودعمناها قليلاً.. كأنها فلسطين، لكن «العالم لا يعرف قضيتنا». واحدة منهن قالتها لتحرّر الذهن المتفرّج من مجهود المقارنة. قالت: قضيتنا كقضية فلسطين، لكن الأمن المغربي أخضعنا لحصارٍ إعلامي. لا أحد يعرف بحالنا، أما فلسطين فيراها العالم.
فلسطين، بعد 66 عاماً خيالية انتقل خلالها الرأي العام العالمي من إدانة الفلسطينيين في وجودهم إلى إدانة الإسرائيليين في وجودهم، هي قصّة تحرّر لم تكتمل بعد، ونحن نشهد مرحلةً من مراحل اكتمالها. نتفرّج، برغم الدمار والدمّ، على مشهدٍ نادرٍ في عصرٍ تبدو فيه إسرائيل وكأنها شاذة، وهي ليست كذلك. هي ابنة نظام عالمي، إن كشف وجهه الاستعماري الصريح أو تخفى وراء الأهداف السامية. وهي ليست ابنة دينٍ أو عرق، وإنما هي ابنة فكرٍ في الاستعمار، كان ولا يزال جزءاً من توازن الوجود في كوكب الأرض. فليس غريباً أن ننظر إلى الصحراء الغربية، ونرى تشابهاً إلى هذا الحدّ مع قصّة ظننا أنها فريدة. وهي فريدة في إحلال دولةٍ فجأةً، وليس في ممارسات الاستعمار.
كسر العظام، قطع النسل، التعذيب، احتكار الموارد، إلغاء الهوية، السنوات، ... كان لفلسطين إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وكثيرون مثلهما. وكان لها الفدائي والفدائية، المقاوم بالعيش والمقاوِمة باليدّ، الحجر قبل الصاروخ، واللهجة قبل اللغات الأجنبية. ولفلسطين اليوم شيءٌ من هذا كلّه، والكثير من اليأس والتعب وأسباب اللعن. والمزيد يولد دائماً، ليفاجئ حتى التاريخ الذي أنجبه. ومثلما شاهد المرء فلسطين تنتقل من هناك البعيد الداكن إلى هنا، حيث التعب لكن أيضاً الدعم الشعبي العالمي، لا بد أن يشاهد المرء القضية التي حاربت لأجلها «جبهة البوليساريو» تصلّ إلى سياقٍ أشدّ عدالة، وأكثر اعترافاً. ولا بدّ أن يكون لنا في ذلك دور.

http://assafir.com/Article/1/382592