مجلة الطريف الصحراوية . يتم التشغيل بواسطة Blogger.

السبت، 29 نوفمبر 2014

الحادث! (قصة قصيرة)

كاتب و باحث: د.غالي الزبير
          ما أن لاحت سيارة "نيسان" البيضاء حتى تدافع الركاب المنتظرون نحوها في فوضى صاخبة، فهي على صغرها، سيارة الأجرة الوحيدة التي ظهرت اليوم، والطريق بين ولاية آوسرد وولاية العيون طريق ترابي، مغبر، ملئ بالمطبات والحفر يحبذ السائقون الإمساك عن انتهاجه إلا للمضطر.

        كان مشهد ذلك التزاحم والتدافع ملئ بالمفاجآت، فأحدهم ديس نعله فانقطع شراكه ليتوقف عن السباق، وأخر وقعت نظارته فإنكفأ يبحث عنها، وامرأة مترهلة حاولت أن تقوم فدفعها شاب متهور عن غير قصد فوقعت سابة لاعنة، وفي نهاية التدافع اسفر الموقف عن تخلف الكثيرين عن اللحاق بالسيارة فرجعوا إلى حيث كانوا ينتظرون وهم يلعنون السيارة وصاحبها والمتسابقين إليها، في حين جلس كل من المحظوظين حيث استطاع، فجلس شاب متأنق، يبدو بقميصه الأصفر ونظارته الشمسية المستديرة التي غطت معظم وجهه نشازاً في هذا المشهد الرمادي الذي اكتمل بجلوس شيخ ستيني يبدو من سحنته التي شوتها شمس الصحراء الحارقة ومن عباءته الدسمة ولثامه الذي فقد لونه الأصلي أنه قادم من سفر بعيد، لعله بدأه من أعماق البادية وانتهى به إلى الالتصاق بالشاب الأنيق القادم من وراء البحر كما يبدو.

           كانت رائحة الرجل البدوي العطنة والغبار الذي يشكل جزء اصيلاً من ثيابه يضايقان الشاب المبالغ في التأنق ويدفعانه الى الالتصاق بالباب الجانبي للسيارة.

           وخلف المقود جلس السائق الشاب الذي كان يدخن بثقة وهو يكتم ابتسامة ظفر ماكرة بعد أن عد بنظرة خبير ركابه، ليعرف كم ألف قد جنى في رحلته التي لم تبدأ بعد.

           وفي الخلف حيث المقاعد المتقابلة جلست فتاة سافرة وقد برزت مقدمة شعرها المصبوغ بلون برتقالي فاقع اللون شكل مع بشرتها السمراء المطلية بمكياج رخيص لوحة متناقضات، أضافت إليها فرقعتها للعلكة بين أسنانها مزيداً من النفور الذي ارتسم على محيا الشاب الملتحي الجالس قبالتها وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ويدندن بصوت مسموع بآيات وأدعية كان يكررها بصوت يشبه الأحتجاج، لا تقابله جليسته المقابلة له سوى بمزيد من الفرقعة المتعمدة وهي تبتسم بخبث وتشفي غريبان.

          وفي آخر المقعد جلس رجلان كبيران كانا أكثر المتدافعين حدة، إذ كادا أن يكونا مع الخاسرين لفرصة السفر الوحيدة، إذ ظل كل منهما يحاول الصعود قبل صاحبه فانحشرا في الباب معاً دون أن يقبل أي منهما أن يترك صاحبه ليسبق.

           وما أن أوصدت الأبواب حتى انطلقت السيارة تنهب الأرض نهباً، و قد غرق الركاب كل في عوالمه الداخلية وهو يشعر بالضيق والتأفف ممن يجاوره، ولم يكن هناك من صوت يسمع عدا فحيح محرك السيارة أو صوت ارتطام عجلاتها بأحجار وحفر الطريق.

          وفي لحظة مباغتة لم يشعر الركاب إلا وسيارتهم ترتفع بهم في الهواء ثم ترتطم بالأرض في عنف شديد واهتزاز مفزع، رفع الركاب عن مقاعدهم وقذف بهم فوق بعضهم البعض، وبمهارة مجرب تمكن السائق من اعادة التوازن المفقود إلى السيارة وعاد بها إلى الطريق الترابي بعد أن قذف بها المطب الذي وقعت فيه بعيداً.

          وما أن عادت السيارة إلى توازنها حتى اكتشف الركاب أوضاعهم الجديدة، كان الشاب المتأنق يضع ذراعه خلف جاره البدوي والشاب الملتحي يحتضن أو يكاد جارته المتبرجة التي سقط لحافها عن رأسها، وكان الرجلان الجالسان في المؤخرة يمسك كل منهما بصاحبه حتى لايقع.

          وماهي إلا لحظات حتى بدأ الجميع يحمد الله ويهنئ بعضهم بعضاً على السلامة، متحدين ضد السائق الذي أوقعهم في المطب، غير أن السائق لم يرد لأنه تعود على مثل هذه المواقف في مهنته المتعبة.

         تغيرت أجواء الرحلة وبدأت الأحاديث الودية والتمنيات القلبية وحتى التعارف والحوار ليكتشف الركاب أنهم يعرفون بعضهم بعضاً ولو من خلال اسماء العائلات وأماكن السكن وبدأت تنسج بينهم علاقات انسانية وليدة.

         وفي غمرة الأحاديث القلبية لم ينتبه أحد منهم إلى انهم قد دخلوا ولاية العيون منذ مدة حتى سأل احدهم السائق:

هل سهوت مرة أخرى؟

أجاب السائق:
          لا، كنت أسائل نفسي وأنا أتابع أحاديثكم، هل سنكون في كل مرة بحاجة إلى هزات كي نكتشف كم يحب بعضنا بعضاً وكم نحن قريبون من بعضنا كل هذا القرب.
نشرت 21/02/2012

موضوعات متشابهه :

0 التعليقات:

© 2013 مجلة الطريف . تصميم من Bloggertheme9