بقلم الاديب : رؤوف بن الجودي
لقد باتَ جليًّا اليوم، أنَّ الطُرُقَ المسلوكةَ للنُهوضِ بالأمَّةِ الإسلاميةِ من براثن التخلُّفُ، ومزالق الانحطاطِ؛ هي طُرُقٌ عقيمةٌ لم تُبنَ على قاعدة شاملة، ولا على تصوُّرٍ سليمٍ للمشكلة. وبعدَ مُضيِّ ربعِ قرنٍ من الزمان، لم نرَ فسيلةَ تنميةٍ تتبرعم، ولا بصيصَ أملٍ ينتشر، بل كلُّ ما هو موجود: دولٌ غارقة في المشكلات، تتجرَّعُ هزائمَ تكدَّست رواسِبُها عبر عقودٍ من الزمن.. ودُولٌ أخرى جرفتها فوراتٌ خاطئة كاذبة، تحت شعارٍ مفبركٍ «الربيع العربي».. هذه الهبَّةُ التي جلبت على الأمَّة الفقر، والفوضى، والفتن، ليغرق المغرب العربي والشرق الأوسط في حماماتِ دمٍ تحتَ نظرِ وسمعِ أمريكا (عليها من الله ما تستحقّ)، ودُول الناتو (قطع الله أيديهم جميعا)!
اِختلفت القراءات لهذه الأزمة إلى درجةِ أفضت إلى النقيض الخالص، فمن المحلِّلين مَن يقول بنظرية المؤامرة، مُغفلا البحث في المسبِّبات، ومنهم مَن يفسِّرُ المشكلة مِن منطلق «براغماتي» بحت، ومنهم من يبحثُ المسألة حسب هواهُ، فيُطلق تبريراتٍ واهيةً للسياسات الإمبريالية المنتهجة بدافع المحافظة على الأمن (أو ما يطلق عليه المفكر مالك بن نبي مصطلح «سياسة الأبوية»)(1).
فتَحْتَ ظلِّ هذهِ الصراعات الخارجية وأخرى داخلية، وجدَ المُثقَّفُ نفسهُ بين المطرقة والسندان، يحملُ في فكره أجساما غريبة، دخلت عليه عن طريق العولمة (وعبر طرقٍ أخرى كالتعليم، والسفر…إلخ)، يمنعهُ شعورُهُ بالدونية اِتجاهَ ثقافته، ولغته، ودينه، من القيامِ بدوره الأساسي في صناعة الوعي، وتوجيهِ الفكر.
• دور المثقَّف في صناعة وعي الأمَّة
إن ثقافة الأمَّة بمثابة الحمض النووي (ADN) في جسم الإنسان، فكما أنَّ هذا الحمض هو المسؤول عن تميِيز كائنٍ بشريٍّ عن كائن آخر، فإنَّ الثقافة -أيضا- هي ما تميِّزُ أمَّةً عن أمَّةٍ أخرى.
ويكفي أن نعرف أنَّ الثقافة في جوهرها هي «مجموعة من الصفات الخُلُقية، والقيم الاجتماعية، التي يتلقَّاها الفردُ منذُ ولادتِهِ كرأسمال أولي في الوسطِ الذي وُلِدَ فيه. وعلى هذا هي المُحيط الذي يشكِّلُ فيه الفرد طباعه، وشخصيته»(2)؛ لنستطيعُ القول -عندئذٍ- أنَّها من الجانب النفسي/الاجتماعي شخصية الأمَّة التي تتجلَّى في سلوكها ومواقفها وقراراتها، وفي قيمها التي توجِّه الأخلاق، وفي مقدار وعيها بما يجري حولها من أحداث.
فصناعةُ الوعي عملية تنشأُ من ترسُّبِ خبراتٍ مُتكرِّرةٍ تُكلّلُ بالظفر أو بالخيبة. وعند الثانية (أي الخيبة)، تنطلقُ عملية البحث عن حلول جديةٍ لاِحتواء هذه الانتكاسة، فتتكوَّن في أول الأمر صورة عامة عن المشكلة، تنتجُ حلولا ساذجة غير فعَّالة (أو لنقل حلولا لا تمسُّ جوهر المشكلة)، وقد تتطوَّر -مع الخبرة- لتصبح أكثر نضجا وفعاليةً.
فأوَّلُ السبيل للوصول إلى حلِّ ناضجٍ، أن نُلاحظَ المسبِّبات التي ولَّدت المشكلة، ثمَّ تحليلها تحليلا موضوعيًّا/منطقيا يستند إلى الحقائق لا الفرضيات، ثمَّ وضع خطَّة مُمنهجة تَعمل كمنقذٍ للخروج من الأزمة الراهنة، ثمَّ تحديد الزمن المطلوب لتطبيق الخطَّة وفق المنهج المُسطَّر، وفي الأخير الحرص على ديمومة المشروع لضمان عدم وقوع نفس الأخطاء.
ومن المؤكَد أنَهُ ستشارك في هذه المراحل الخمسِ جميعُ الشرائحِ الفاعلة في هذا المجتمع: ابتداءً من العامل البسيط، وصولا إلى صاحبِ القرار، كلُّ ذلك تحتَ إشراف أهل الاِستشراف، الذين يرسمون الخطوط العريضة لمشاريع التنمية الضخمة البعيدة المدى(3).
فإذا شبَّهنا هذا المثقَّفَ/المفكر بالمهيِّئ العُمراني (Aménageur) وهو الشخص الذي يضعُ تصوُّرًا شاملا لشكل المدينة وهيئتها، من مبانٍ وشوارعٍ، ومرافقٍ… فيستعينُ -لا محالة- بالجيولوجي الذي يدرس طبيعة التُراب، وبالسيسمولوجي الذي يشيرُ عليه بتفادي البناء على المناطق الزلزالية، وإلى الطبغرافي الذي يرفع له في مخطط شكل الأرضية المزمع البناء عليها، وإلى المهندس المعماري الذي سيصمِّمُ له ملامح العمارات، وإلى المهندس المدني الذي سيستشيره في المقادير المُستخدمةِ في البناء (كالإسمنت، والحديد وكميَّات الرمل المناسبة…إلخ.
وبنفس الطريقة يصنع المُفكِّرُ مع شرائح المجتمع المختلفة، وذلك حين يضعُ مشروعًا ضخمًا للنهوض بالأمَّةِ من وحل التخلُّفِ إلى الرقي والازدهار، والانتقال بها من حمأة الانحطاط إلى السموُّ والتطوُّرِ.
• دورهُ في توجيه الذوق العام
لقد تنكَّأ المثقَّفُ منذُ عقودٍ عن القيام بدوره الفعَّال في توجيه الذوقِ العام، حتى فقدت الأمَّةُ قُدرتها على تذوِّقِ الجمال، ومعرفة الفنِّ الهابطِ من الفنِّ الرفيع، فكانت فرصةً سانحةً كي تنتشرَ الفوضى الخلَّاقة في الميادين الثقافية والأدبية. فدخل على هذه الميادين مَن ليسوا لها أهلا، فكثر الدُخلاءُ في كلِّ فنٍّ؛ لدرجةٍ أصبحَ المُبدعُ الحقيقيُّ يستحي أن يُذكرَ اِسمُهُ مقرونًا باِسمِ الفنِّ الذي يُزاوِلُهُ!
فهذا التقاعس كان من بين الأسباب التي دفعَت بالجيلِ الجديدِ للاِعتراضِ عن كلِّ موروثٍ ثقافيٍّ، واِستبداله بالبضائع الثقافية الغربية التي دخلت بيوتات المسلمين عن طريق الفضائيات، والإنترنت… فمسخت الطبائعَ، وغيَّرت النفوسَ، وطمست القيم، وألحقت فكرَ الأمَّةِ المؤمن بالفكر الغربي الملحد!
كما أنَّ هذه التبعية جلبت علينا آثارًا وخيمةً، جعلت النشءَ ينبذُ لغته «العربية»، ويُعادي دينَه «الإسلام»؛ ولم يكن حُدوثُ هذا السقوطِ في لُجَجِ الضياعِ الإنساني بغريبٍ على أصحابِ استقراءِ الأوضاعِ الاِجتماعية، لأنَّ من المعروف لديهم أنَّ «الطبيعة تأبى الفراغ». فالاستعمار -قبيل نصف قرن- تجشَّمَ تفريغَ المُسلم من عقيدته وثقافته ولغته، وملأها بعقيدة كافرة، وثقافة سافرة، ولغة لقيطة؛ تُناوئ أصالته وإنسانيته.
• خُلاصة
بات واجبا على كلِّ مثقفٍ واعٍ؛ أن يسترجعَ مكانته في المُجتمعِ، بمسح الغبارِ عن وجهِ الثقافةِ المهدَّدةِ بالزوال، لسبب ظاهرٍ هو أنَّ أعداءَها كثر، وحماتَها قلة، وأبناءَها في غفلة من أمرهم، يجهلونَ جهلا تامًّا ما يُحاكُ ضدَّهم(4)، فإذا لم تقم هذه الصحوة الثقافية الفكرية الأدبية على يد المثقفين؛ فعلى أيدي مَن ستقوم؟![إهـ].
ــــــــــــــــــــــــــ
1) كتلك السياسات التعسفية التي تطلق مثل هذه التبريرات كقولهم: القضاء على الإرهاب الدولي، وحملة نزع السلاح، وحضر أسلحة الدمار الشامل!
2) مالك بن نبي. «شروط النهضة».ص83.
3) أما التفاصيل فيرسمها أهل الاختصاص، فالعمارة يُصممها المهندس المعماري، والسيارة يصمِّمُها المهندس الميكانيكي، والخزانة يصنعها النجَّار… وهلمَّ جرُّا. وسيأتي مثال الذي ذكرناه.
4) لقد قطع الأعداءُ أشواطا كبيرة في تلك المشاريع الماكرة التي هدفها الهدمُ والردم!
منقول عن مجلة الخريدة.
منقول عن مجلة الخريدة.
0 التعليقات: