كان الترامواي يضج بالركاب ولكن لم يكن صخبهم ليغطي على صراخ منبعث من الجهة المقابلة، كان بكاءهستيريا لطفل بدا لي من صراخه أنه غير طبيعي، أو على الاقل به أمر ما، ولكن مجتمع الترامواي كان للاسف صورة مصغرة عن مجتمعنا الكبيرالذي لا بعبأ بمعرفة الدواخل والدوافع، ويحكم على الظاهر بل ويتفنن في اصدار أحكامه القاسية. الكل راح ينتقد الفوضى التي أحدثها الطفل الضعيف، ويتنقد الام المسكين كيف لها أن تترك صغيرها يصرخ بهذا الشكل ، أجبت من كانت قريبة مني و تلفظت بذلك أن البديهي انها تحاول اسكاته ولكن يبدو انه لا يستجيب، طال عويل الطفل والكل متأفف ومشمئز، توجهت الى مكان انبعاث الصراخ باحثة عنه فلقد أشفقت عليه من تعب الصراخ و حز في نفسي كم الانتقادات الذي نالته أمه ووضعت نفسي مكانها، يا ترى كيف سيكون احساسي اذا ما تعرضت لموقف مشابه لا قدر الله؟ تفاجأت لرؤية طفل نحيل جدا يكاد عظمه يظهر من تحت جلده، شاحب الوجه كغيمة شتاء عجوز حطت على ربيع الطفولة، عيناه الحزينتان كان تحتهما سواد كبير أكبر بكثير من سنه، كانتا غائرتين كغورالقمر في كبد الليل البهيم وهائمتين كمنفى دون قرار، وشفتاه ترتجفان رجفة هارب من برد الايام ،كان مظهره يوحي أنه منهك ومريض جدا ، أعطيته كيس حلوى كنت اشتريته في الصباح وأنا أتساءل لم اشتريته لان هذا ليس من عادتي؟ فإذا به رزق الولد، ادخلت حبة الحلوى في فمه وطلبت منه ان يستريح فقد أعيا نفسه بالبكاء و العويل حتى كاد صوته يرحل مثلما رحل عنه وهج الانطلاق، نظر الي مستعجبا ومحدقا ومقلتاه المفعمتان بالجمال رغم السقم بهما الف تعبير وتعبير، ما إن نظرت فيهما حتى ضعفت وتداعت لهما عيناي بالدموع ولازالتا كلما تذكرته، فرحت والدته كثيرا لانها كانت في ورطة وحرج من أمرها ، وخيم الهدوء فجأة على المكان .
عدت أدراجي الى مكاني حاملة معي هم الولد وأمه، ومتسائلة الى متى نظل نمارس مهنة القضاء القاسي و نصدر أحكامنا على الناس مع العلم ان القاضي يسمع كل الاطراف ، اما نحن فلا نسمع الا صوتا واحدا اسمه " انفسنا المريضة".
بقلم ندى عبد الرحمن
0 التعليقات: