
إن الوصول لأعماق الطبيعة يمنحنا فرصة الولوج لجوف الحقيقة إذ يخلق خطوط التواصل والتعايش فلا يبقى للغموض مكانا. أبرزت الفنانة في لوحتها " صحراء مصر " حريتها الاستقرائية وهذا راجع لعمق حسها الباطني إذ نجدها قد وفقت في التقريب بين جوهر العناصر والظاهر فكان أسلوبها المتبع في بسط أفكارها واضح ، ونجحت في الوصول لأذهان الناس لكونها لا تهتم بالشكل الخارجي للمنظر فقط بل أمتد اهتمامها إلى الباطن . فنسجت الحقيقة بخيوط من الألوان الداكنة والترابية، وزرعت أضواء في أعماق اللوحة إذ يعتبر هذا الضوء حبل الشوق الذي يربطها بالموضوع. نلمس عبقريتها في تناغم العناصر والتكامل بين الزوايا حيث أوصلت اللوحة إلى ذروتها ، ويظهر تأثر الفكر الجرماني جليا بالنمط البشري المصري ونلمس هذا التأثر في الدقة المتناهية التي رسمت بها اللوحة والجمالية الإبداعية المرئية في المساحات المتقاربة بالإضافة إلى تجاوب حسها الباطني مع إيماءات العنصر البشري رغم الاختلاف الموجود بين عالم الشمال والجنوب . أغرب المشاهد تستمد القوة من أعماق الرسام وتحمل اللوحة أفكاره وتمشي مشاعره على ضلال الخطوط والألوان. النظام التحليلي للفنانة التشكيلية بصري حسي ويعتمد هذا النمط على ما تلتقطه القرنية وهذه الرؤية ساهمت كثيرا في منحها الرؤية الدقيقة للأشياء وبالتالي أبرزت لها المفهوم الخيالي الذي دعمت من خلاله حسها المرهف الذي أوصلها إلى القراءة الميتافيزقية لتمسك بأطراف اليقين لذلك نجد لوحتها تنبض بالحياة لامتلاكها روح الحس الإبداعي ونجدها في أي منظر ترسمه يضعها في زاوية مؤثرة وهذا التأثير هو وقود إلهامها الذي يستنطق إدراكنا للغوص في ماهية العناصر المرئية والتأمل في المساحات التي خلقت فيها التكامل والتالف بين العناصر المتباينة. لوحة "صحراء مصر " كشفت لنا جزء من الحقائق في تلك الحقبة الزمنية التي توالت مع الحرب الباردة وكان آنذاك مصير الشعوب المستقلة حديثا على المحك في اختبار قدراتهم العقلية وإستعدادتهم الفطرية وتحديد طموحاتهم المستقبلية وقوة استمرارهم متماسكين للإبقاء على خطوط التواصل بين أفراد المجتمع الواحد وترسيخ مبادئهم وعقائدهم المختلفة ( المسيحية، اليهودية ، الإسلامية...) والمشي مضيا في درب الأمم المتطورة . استعملت الفنانة في هذه اللوحة الألوان الداكنة في العنصر البشري والألوان الفاتحة في العناصر الطبيعية ربما تعكس مخلفات الحروب السلبية التي لم تطال الطبيعة بقدر وقعها على البشر ( مسحة حزينة) ورغم هذا نلمس تلاحمهم الاجتماعي الذي يتمحور في نظراتهم إذا توحي لك بأنهم فردا واحدا رغم أنهم لا ينظرون لنفس الزاوية التي توحي للمتلقي بالاختلاف في الأفكار والأحلام والطموحات وإتحاد نظرتهم تجسد قوة تماسك رابطة الصلة الاجتماعية وعزيمتهم وإرادتهم الفولاذية رغم الحزن الذي أمتص الفرحة من وجوهم لم يسلبهم الأمل ولم تصل راية اليأس إلى ذواتهم لذلك ترى إبتاسمة السلام تحمل حزنا عميقا . ألوان ملابسهم داكنة وبسيطة ومحتشمة قد يرجع هذا لأنهم من عامة الناس وخرجوا من الحرب للتو بالإضافة إلى عزلتهم وحرمانهم لأنهم ينتمون لعالم الجنوب وصورتهم حفاة دلالة على درجة فقرهم المتقع وأن حياتهم صعبة وشاقة جدا ويفتقدون للرفاهية إلا أنهم يملكون الوقار الذي نلمسه في ملابسهم المحتشمة وترى مسحة حزينة على وجوهم هي نتيجة الحياة القاسية التي يحيوها ويومياتهم المدججة بالأحزان وهذه الظروف القاتلة لم تسلبهم قسط من السعادة التي نراها في ابتسامتهم ونظرتهم التفاؤلية لأنهم يملكون الفضيلة العقلية والأخلاقية . خلفهم صحراء جرداء ربما تدل على الماضي الذي كان يعرف ركودا اقتصاديا وقلة الإنتاج وانعدام الإستمثار بخلاف السياحة التي عرفت في تلك الآونة ازدهارا كبيرا ونهبا واسع النطاق للآثار والتحف الناذرة والتي نراها الآن في المتاحف العالمية وهو سطو عل الملكية الخاصة للثقافة المصرية العريقة .ونرى صحراء بالية ربما لافتقادها إلى الحياة الحيوية وقد تدل أيضا على الفترة الماضية وحكاية معاناتهم مع الفقر وعزلتهم وحرمانهم بسبب الحرب العالمية الثانية. نأتي إلى المساحات الأمامية من اللوحة التي هي غنية بالعناصر الاجتماعية والطبيعية ( نبات، ذرة، العنصر البشري...) فالمساحات الأمامية تشرح المفارقة الكبرى لعنصران الطبيعي والبشري في العلاقة الترابطية السببية بين العنصرين الذي أنتج لنا تجاور في المكان وربما يرمز إلى نوع الزراعة المنتشرة في تلك المنطقة ويعود رسم المساحات الأمامية تنبض بالحياة قد يكون إيصالنا إلى فكرة بأنه لا يمكن للحاضر أن يشبه الماضي وهذا النموذج ليس بالغريب لأنه أستطاع أن يخلق انسجام ومثل الإنسان والعالم الذي يعيش فيه ـ الطبيعة ـ المجتمع ـ التاريخ . رسم غروب الشمس خلف الجدة ينقل لنا التشابه في اقتراب نهاية الحياة الزمنية فالشمس تلبس ثوبها الأخير وهي على مقربة الغروب والجدة في مرحلتها الأخيرة من الحياة (الشيخوخة ). هناك نور طبيعي ينبعث من كل العناصر الموجودة في اللوحة وقد يكون مصدره الشمس قد يرمز للحقيقة الموجودة في جوهر العناصر أو الحرية أو الجمال الموجود في الذات وربما تريد أن تعبر من خلاله عن الإتحاد بين الطبيعة والبشر فندرك بذلك أن العالم متصل في جوهره ومنفصل في مادته وإذا كان النور سر الوجود الذي يرشدنا إلى الحلقات المترابطة بسلسلة من السببية والوظيفية التي أساسها الماهية والهوية التي تثبت وتؤكد أن الله موجود وهو من يضمن الاستمرارية للموجودات لأنها تابعة له ولا قيام لها إلا به في أي لحظة من لحظات خط الزمن والماضي والمستقبل لا يكون إلا به ولا نستطيع تغير طبيعة النور فهو ثابت سواء كنا مهتمين به أو منصرفين عنه فلن يتغير.

0 التعليقات: