مجلة الطريف الصحراوية . يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الاثنين، 22 ديسمبر 2014

شهادة ناشر وكاتب ورئيس تحرير

سماح انور

النشر انعكاسٌ لما يعتمل في فئات المجتمع المختلفة من غضبٍ وتبرّمٍ وإحباطٍ ولامبالاةٍ وغير ذلك. لكنّه أيضاً، بل أساساً، فعلٌ، ودوْرٌ، ورسالة. أعرفُ أنّ الكلمات الأخيرة ستنفّر كثيرين لكونها ديموديه وآوتدايْتد وغير كووول (متقادمة وبالية ومتشنّجة) في عصر الحداثة والعولمة. لكنّ هذا هو أساسُ ما يحفّز الناشرين الملتزمين العربَ على "الاستثمار" في هذه المهنة التي توشك على الانقراض، ويوشكُ أصحابُها على أن يتحوّلوا إلى ديناصورات.
***
أستطيع أن أزعم أنّ أكثر الكتب التي تفاعلتْ مع الانتفاضات العربيّة منذ العام 2011 تنقسم في قسمين كبيرين: قسمٍ يعبّر عن حماسٍ مفرطٍ لها، وآخرَ يعبّر عن إحباطٍ مفرطٍ إزاءها. القسمُ الأول اتّخذ شكلَ اليوميّاتِ، أو المقالاتِ المجموعة، التي كُتبتْ يوماً بيوم، وأحياناً من قلب الحدث نفسه (ميدان التحرير، ساحات التظاهر في دمشق، الخ...). والقسمُ الثاني كتبه، في العادة، روائيّون يساريّو الجذور، توجّسوا شرّاً منذ بداية الانتفاضات لأنها لم تتطابقْ والصورةَ "النموذجيّةَ" التي رسموها للثورات (علمانيّة، تقدميّة، بقيادة تنظيمات جذريّة، ذات مشاركة نسائيّة كبيرة، الخ...).
***
بعد حلولِ ما يسمّى "الربيع العربيّ" تضاعفتْ في رأيي مسؤوليّةُ الناشر الملتزم. لم يعد جائزاً، مثلاً، أن يتساهل مع سخافات الاستشراق في صوره العنصريّة، المترجمة والعربيّة على حدّ سواء (ملاحظة عابرة: جالدو الذات من العرب لا يقلّون عنصريّةً تجاه العرب عن كارهي العرب من الأجانب!)؛ وأعني: السخافات التي تتحدّث عن موت العقل العربيّ، وكسلِ الشعبِ العربيّ و"نعجيّته"، وتراخي الهِمم العربيّة، واستكانةِ العرب للقدر. فالشعب العربيّ في كلّ مكانٍ أثبت، لمن كان ما يزال في حاجةٍ إلى إثبات، أنه من أقدر الشعوب على الثورة والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل حريّته وكرامته.
لكنْ، في المقابل، لم يعد جائزاً أيضاً أن يتساهل الناشرُ الملتزمُ مع تفاهة التفاؤل المفرط بالثورات، كيفما كانت، ومهما كان برنامجُها (أو "لابرنامجُها")، وأيًّا كان داعموها ومموّلوها ومخطّطوها وقادتُها وتركيبتُها الاجتماعيّةُ والطبقيّةُ والطائفيّةُ والمذهبيّة. نعم، كان جائزاً، أو مفهوماً، في البداية فقط، أن ننجرف وراء التفاؤل الكبير بالتغيير الذي أحدثته الهبّاتُ العربيّةُ الجديدةُ بعد عقودٍ من الظلم والاستبداد والتخاذل الوطنيّ والقوميّ في وجه عدوّنا "إسرائيل"؛ لكنّ مواصلة ذلك الانجراف، من دون تحكيم أدوات التاريخ والعقل والتجربة، باتت خيانةً فعليّةً في حقّ البشر والنشر!
إنّ الدوْر الذي يمكن أن يلعبه النشرُ العربيُّ بعد الانتفاضات العربيّة بات أعظمَ وأخطر بما لا يقاس. ذلك لأنّ ما يسمّى "الربيعَ العربيّ" قد تكشّف عن أخطارٍ جسيمةٍ ترافقتْ مع تلك الانتفاضات، بل لعلّها كمنتْ فيها منذ البداية: في ضعف التنظيم، والاستخفافِ بدوْر الأحزاب الثوريّة، والاستهزاءِ بأهمّيّة الوعي والتثقيف، والتساهلِ في قضايا المرأة والديمقراطيّة وحقوقِ الناس وتأجيلِها إلى ما بعد نجاح "الثورة" (وكأنّ الثورة "تنحج" فعلاً إنْ هي أُجّلتْ هذه القضايا، أو كأنّ الديكتاتور "الموقّت" قد يصبح ديمقراطياً فيما بعد!). ولكنّ هناك أخطاراً أخرى نبتتْ في سياق هذه الانتفاضات أيضاً: بدءاً بازدياد تدخّلِ الأدوار الخليجيّة والغربيّة فيها، مروراً ببروز السلاح في يد بعض المعارضات، وانتهاءً بتطيّف جزءٍ منها وتمذهبِه وولائه المكشوفِ للخارج. وأزعم أنّ على النشر العربيّ اليوم دوراً رئيساً مزدوجاً، هو دورُ الرؤية النقديّة الفاحصة: فلا يروّجُ للأحلام الورديّة الخلّبيّة التي تُخفي الأطماعَ الغربيّة ـ الخليجيّة الخبيثة تحت ذريعة السخرية من "نظريّة المؤامرة الغربيّة"، ولكنّه لا يروّجُ كذلك لهذه النظريّة بهدفٍ خفيٍّ (أو معلنٍ) هو الحفاظُ على الاستبداد "الوطنيّ والقوميّ" حراً طليقاً.
***
يبقى أخيراً أنّ على النشر العربيّ الملتزم أن يقوم بثورته الخاصّة في خضمّ الانتفاضات العربيّة. ولا أعني الثورة على مستوى تجديد الطباعة والإخراج والرسم والعرض فحسب؛ فهذه مجالاتٌ لم يقصّر النشرُ العربيُّ، واللبنانيُّ بشكل خاصّ، في أيّ منها. بل أعني الثورةَ في المستويات الآتية:
1ـ ثورة في الانفتاح على آدابٍ عالميّةٍ قصّرنا كثيراً في التعرّف إليها ونقلها إلى العربيّة. فالعالم لا يمكن اختزالُه في بعض الأدب من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان مثلاً.
2- ثورة في نشر أدبِ أطفالٍ جديدٍ: بعيدٍ عن الوعظ، والتلقين، واستغباءِ الأطفال، والتقعّرِ في اللغة.
3- ثورة في التوزيع. وقد يساعد على ذلك أن تعمد بعضُ دُور النشر المتشابهة في الخطّ السياسيّ والفكريّ العامّ إلى الاندماج لكي تستطيع أن تحسّن أداءها في الوصول إلى أقصى أقاصي الوطن العربيّ الكبير، ولاسيّما في مواجهة زحف النشر المعولم إلى أقطارنا ومحاولته استقطابَ كتّابنا و"شرائهم".
4 – ثورة في التقنيّات. فالحق أنّ النشر العالميّ يتجه حثيثاً إلى الكتاب الإلكترونيّ (الإي بوك)، ولا مهْربَ بعد اليوم من أن تسعى دُورُ النشر العربيّة إلى ولوج هذا الميدان.
***
الثورة العربيّة مشروعٌ كاملٌ، ومشروعٌ متكامل. قد يبدو هذا شعاراً من شعارات الستينيّات، ولكنْ لا ضيْر في ذلك! فالثورة العربيّة مشروعٌ كاملٌ لأنها ليست إسقاطاً لرئيسٍ فحسب، ولا لنظامٍ سياسيّ فقط، خصوصاً إذا كان ثمنُ هذا وذاك تدخّلاً أجنبياً أو هيمنةً رجعيّةً فاشيّةً بمعونة الغرب وتخطيطه. وهي مشروعٌ متكاملٌ بمعنى أنّ عليها، لكي تنجحَ فعلاً، أن تتضافر مع أشكالٍ متعدّدةٍ من الثورة: في الاقتصاد، واللغة، والتربية، والإعلام، والكتابة... والنشر أيضاً.
منقول عن "مجلة الاداب"

موضوعات متشابهه :

0 التعليقات:

© 2013 مجلة الطريف . تصميم من Bloggertheme9