مجلة الطريف الصحراوية . يتم التشغيل بواسطة Blogger.

الخميس، 4 ديسمبر 2014

لوحات من اللجوء...



اللوحة ثانية: الصمود بتاء التأنيث


الأيام في المخيم تمر سراعا، لا تمنحك الفرصة لالتقاط انفاسك، أو هكذا خيّل إليّ أنا القادمة من السمارة حيث تكتم سلطات الإحتلال على الأنفاس، وحيث أفضل أن أقضي يومي في المنزل، ولا أخرج إلا مضطرة.
هنا في هذا المخيم الوضع مختلف تماما، فلم يكد يمر يومي الأول حتى تعرفت على العائلة جميعها، وكان بعض من أفرادها قد قدم من مخيمات أخرى لاستقبالي. تعرفت على مؤسسات الدائرة و حضرت تجمعا لإحدى اللجان التي تتكفل بإدارة المخيم. رئيسة اللجنة في الستينيات من العمر تحيط بها هالة وقار أقرب إلى الرهبة، كانت تناقش الوضع الغذائي في الدائرة و حصر حالات الشيوخ و العجزة الذين يحتاجون رعاية خاصة، ويتجاوب معها في النقاش مجموعة نسوة يسجلن الملاحظات ويدلين بالمقترحات في جو تسوده جديّة خلتها انتقلت كالعدوى من رئيسة اللجنة إلى بقية أفرادها.
في اليوم الثاني كنت غير قادرة على الخروج من الفراش، نشاط اليوم الأول ارتد عليّ تعبا. اقبلت أمي عليّ وهي تمازحني؛ " إيه، صيدت المنطقة فترانة، يناري، يناري" ثم تجذب اللحاف برفق وتردف؛ "كومي افطري، شوفي الناس وأهلك الجايين يسلمو عليك وردّي عليهم أخبار الصحراويين في الأرض المحتلة" نهضت وأنا أغالب خدرا يغريني بمواصلة النوم.
الأطفال يختلسون النظر إليّ والنساء يبادلنني حديثا متقطعا، والجو يغلب عليه هدوء لم يقطعه غير صوت عال سبق صاحبته وهي تسأل الأم؛ "الخاطرة أمنين يخوتي..لابدّالي منها اليوم"، أجفلت قليلا، وتوجست بعض خيفة إذ عرفت المرأة، تلك هي رئيسة اللجنة التي حضرت اجتماعها بالأمس، هو نفس الوجه الذي خطته التجاعيد، نفس الوجه الذي يكاد من فرط صرامته أن يستحيل عبوسا، لكن منظر المرأة الباسم، بل الضاحك خفّف من وطأة تهيبي، ثم أن ضحكات الأم وهي تعقّب على كلام المرأة القادمة " يمي مانّا ساخيين لك بيها يا السالكة" كادت تنسيني الملامح الصارمة التي احتفظت بها مخيلتي بالأمس للسالكة.
لكن السالكة لم تستسلم لكلام الأم، بل أردفت معلقة بصوت مازح ؛ " ذاك ألا حد أمّخظ عليك المشورة، بلا أجميلك أنت"، وتلفت نحوي " وبلا أجميلها هيّ أفطني"، ثم التفتت نحو الأم تمازحها لينخرطا في ضحكات سرى مفعولها في الحضور لأجد نفسي ابتسم متأثرة بالجو السائد ثم أضحك على استحياء سرعان ما تخليت عنه.
قبل أن تودعنا السالكة التفتت نحوي وهي تقول؛ "عندك ألّا ساعة وحدة اتجيني عاقبها، راني انحانيك" ثم تشاغب أمي؛ " راهي إلى ما جات راني لاهي نرجع ألكم وأنسل اركيزة الخيمة من فوق روسكم" وتغيب عنا وضحكاتها لا تزال تملأ المكان.
عرفت من الأم أن السالكة بمثابة الأخت التي لم تلدها الأم، تقاسمتا ظروف الحياة بحلوها ومرها طيلة سنوات اللجوء.. تغدينا عند السالكة ذلك اليوم، كانت ربة بيت ممتازة، رغم أن بنتيها اللتين دخلتا العقد الثالث من عمرهما يحاولان القيام بكل شيئ، إلا أن السالكة تأبى غير الإشراف على المأدبة بكل تفاصيلها. شاركت ابنها البكر والوحيد في جلب الماء من الحنفية التي تبعد مسافة غير قليلة عن الخيمة، ولم يثنها عن حمل المياه لا تحذيرات الإبن و لا توسلاته. مرض السكر و الضغط و المفاصل كلها لم تثن من عزيمة هذه المرأة، حيوتها تفيض على من حولها ثم تجد فضلا من وقتها للتصدي لشؤون المخيم العامة والمساهمة في إدراة دفة الحياة فيه. قبل أن أغادر منزل السالكة، علمت أن رب العائلة الصغيرة ارتقى شهيدا إلى دار الخلد في إحدى آخر معارك جيش التحرير آخر الثمانينيات، وتولت السالكة تربية أبنائها الثلاثة، دون أن تغير من وتيرة مساهمتها في تسيير الدائرة.
رجعت إلى الخيمة وأنا لا اتوقف عن الحديث عن السالكة؛ هذه العزيمة الفولاذية، هذا الإصرار، هذا الصمود الخرافي، الإستثنائي..أمي كانت تستمع إليّ و هي تتطلع إلى وجهي الذي سكنته دهشة وإعجاب عصفت بآخر قلاع التحفظ..حين انتهيت ألفيت أمي تضمّني إلى صدرها وتقول لي فيما معناه؛ "إنك على حق في كل ما تقولين، إلّا أن السالكة قاعدة وليست استثناء، هل تتصورين حياة في المخيم دون مشاركة المرأة؟..المرأة رديف الحياة في المخيمات"
تطلعت إلى ما حولي ثم إلى الأفق البعيد، يدي الآن عصفور يتفيأ بدفئ كف يد أمي التي تمسك بها بقوة. جالت عيناي في المخيم؛ ثمة امرأة قادمة من المجمع الإداري تسحب قارورة غاز وأخريات قادمات من مدرسة الدائرة وثمة تبدو من بعيد امرأة أخرى بلباس الممرضة الأبيض.. مثل هؤلاء النسوة صنعن الفرق في المخيمات، مثل هؤلاء النسوة أضفن مسحة بهيجة أحالت الأرض القاحلة المتجهمة إلى دنيا نابضة بالحياة.
و إذ كانت العينان تتنقلان بشغف في تفاصيل حياة المخيم، كانت كلمات الأم تتردد صدى في أذني؛ " المرأة رديف الحياة في المخيمات"..حقا، المرأة رديف الحياة.
تكتبها : مجهولة المصير
..............................................................................................................................................

موضوعات متشابهه :

0 التعليقات:

© 2013 مجلة الطريف . تصميم من Bloggertheme9