![]() |
بقلم : مجهولة المصير |
عبر الهاتف النقّال، المهـرّب خلسة إلى داخل الزنزانة، يأتيه صوتها متوترا مخنوقا يكاد يفيض عـبرات، لا تعطيه فرصة الرد عليها: "لم أعلم أنك في حالة إضراب عن الطعام، ولم أكن أدري أنك أكبرهم سنا، و إلّا ما طاوعتهم على المشاركة في هذا المقلب السخيف..أرجوك سامحني..لكنك حتى وإن سامحتني ، فإنني لن أسامح نفسي".
استرسلت في حديثها المختنق غير عابئة باعتراضاتي. محاولات تهدئتها باءت بالفشل، فاستسلمت أذني للصوت المتكدر الحزين وهو يعلن أسفه و اعتذاره على ما بدر منه من سوء أدب في حقي.
خيّل إليه لوهلة أنه يراها رأي العين؛ بسمتها استحالت شمسا أنارت أركان الزنزانة الموحشة وبدّدت عتمة المكان.. بل توهم للحظة أنها أضحت تقاسمهم هذا الحيز المكاني الموحش، هاهو وجهها يدنو منه، تتضح ملامحه و تلك قطرات تسيل على الخد الصبوح، يمد يده يريد أن يمسح دمعا ملأ عينيها، تماما كما كان يفعل لابنته الوحيدة التي لا شك أنها تماثلها في السن؛ " لا تبتئسي ياابنتي، أعرف أن الأمر مجرد مزحة" يقول لها في همس و هو يمد يده المرتعشة نحو وجهها، لكن يده تصطدم بكتف أحد رفاق السجن، وسرعان ما يستفيق من حلم اليقظة على قهقهات صحبه وهي تملأ المكان..عرف أن أيام الإضراب عن الطعام بدأت تأخذ من تماسكه بعد أن أخذت من جسمه النحيل..التفت نحو رفاقه وهو يصرخ بما أوتي من قوة أصبحت تتلاشى يوما بعد يوم؛
" أمشو الله يسخطكم" يقول متصنعا الغضب، وقلبه يشاركهما فرحة اللحظة.
وأخذ يلتفت من حوله، يلملم أشياءه، تلك عادة درج عليها كلما شعر بحرج أو ضيق، وإذ لم يكن لديه الكثير غير لثامه الذي اهترأ و قداحة اضربت هي أيضا عـن إطلاق شعلتها، طفق يلملم أشلاءه، نعم أشلاءه التي تناثرت من فرط السعادة، وهو يتمنى لو تمتد اللحظة دهرا كاملا؛ الصوت الصغير الملائكي الذي يذكره بصغيرته، ضحكات الرفاق التي تستهزئ بالزنزانة، بالقضبان، بالجدران والجلاد، النظرات المتواطئة التي تعاند واقع الحال و تبحث لها عن لحظات فرح وتحتال لها بكل الحيل والألاعـيب البريئة.
"لقد ابتلعت الطعم يالشيباني..أمرطناك.." يصرخ أحدهم وهو يصيح جذلانا..
" أيوا، رد علينا لخبار ممثلة آمنستي إياك لاهي تكدي أف مخينزو النار؟" يردف آخر وهو يتساءل في خبث..
"الله لا يوقركم يا لمنسخة" يجيبهم و ابتسامة عريضة تعلو الوجه الذي عجز عن تمثّل الصرامة..ثم سرعان ما يجد نفسه يضحك لضحكاتهم.
"أيوا اسمح ألنا يالوالد..رانّا ألا انجوق معاك..راهي ألّا عزّت المعايرة" يقول أحدهم وهو يتصنّع مهابة سقطت عليه فجأة.
لكنه يأبى إلّا مسايـرتهم في مرحهم؛ " أمشي، اللّه لا يولدك يالمسخوط" فتهتز الزنزانة اللعينة لقهقهات الشباب الذين تساموا على معاناة السجن والسجانين.
آه..ليتهم يعلمون أن مثل هذه المقالب التي تضفي ألوان الفرح على عالمنا الكئيب هي التي تمدني بالقوة للإستمرار في إضرابي عن الطعام، ليتهم يعلمون أنني ممتن لهم إذ يخفّفون بمثل هذا المزاح والمقالب آلام الظهر والمعدة و القولون والضغط التي تهدّ جسمي المنهك.
هم يظنون، كما الصغيرة التي تواطأت معهم، أنني قد ابتلعت الطعم، لكنهم لا يعلمون أنني أفعل ذلك عن طيب خاطر حتى لا أفسد هذه اللحظة، التي نتوق لها جميعا..هذه اللحظة التي تمزق روتين الزنزانة الكئيب و التي تمدني بعزيمة الإستمرار في تحد شروط السجن وقسوة الجلاد ...و التسامي على الجسد المنهك في معـركة الأمعاء الخاوية التي تشاركني الجلد والصبر من أجل معانقة شمس الحرية. ضحكاتهم لا تزال تملأ المكان يصاحبها نور تسلل من قضبان السجن الضيقة، ومن النور تطل الصبية مرة أخرى ..هي، نعم هي نفسها الصبية صاحبة الصوت الرقيق المتوتر..أهمس لها، مع حرص على أن لا يسمعني هذه المرة رفاق الزنزانة ؛ " لا تذهبي بعيدا، وجودك بيننا في الزنزانة يشيع بريق أمل يبدّد الظلمة..عودي بألف دور و دور فسأبتلع الطعم و المقلب وأصدق الدور..لا تسدلي الستار ولا تعلني نهاية المشهد..فلن ينتهي مشهد الحياة إلا بانتصارنا جميعا على عشاق الموت والـدمار أعداء الحرية، أعداء الحياة"..الشعاع المتسلل لا يزال يحمل طيف وجهها الملائكي، خلتها تومئ برأسها إيجابا، فهممت أن أحمل البشرى إلى الرفاق.
و حين التفت إليهم ألفيتهم واجمين، كأنهم شاركوني همسي الذاتي، هم قلقون، لا شك على صحتي، يعتقدون، مخطئين، أن جسمي لن يقدر على المقاومة.. انكمشت على نفسي و قد شعرت بأنهم قبضوا عليّ متلبسا بالبوح في لحظة وجدانية تعانق ضعفي البشري..فوليتهم ظهري بسرعة وأنا أشيح بوجهي وأصابعي تمتد نحو أعين جاهدت على أن تداري دمعة حرّى في لحظة عتاب مشدودة بين إصرار على الحياة أو اللحاق بصحب قضوا فارتقوا.
مجهولة المصير
12/12/2014
اهداء؛ إلى مبارك الدّاودي، الذي علمنا أن للحرية أجنحة تسمو بنا حتى ونحن وراء القضبان ..
0 التعليقات: