![]() |
احلام مستغانمي |
كنتُ في تونس مع الدكتور سهيل إدريس، رحمه اللّه، حين بَلَغَنا خبرُ وفاة الغالي نزار قبّاني. بكى سهيل إدريس يومَها كطفل. أَجْزم أنّ شيئًا منه مات يومَها بموتِ رفيقِ عمره. فقد كان، رحمه اللّه، عاطفيّاً ووفيّاً لصداقاته. أما أنا فلم أذرفْ يومَها دمعةً على نزار، ولا أدليتُ بكلمةٍ إلى الصحافة؛ فقد كان حزني عليه غيرَ قابلٍ للإشهار.
عَجِبَ الدكتور سهيل إدريس لأمري، بعد أن مرّ شهرٌ دون أن أُعزّي ابنتَه هدباء. كنتُ، في الواقع، أؤجِّل ـ ما استطعتُ ـ اعترافي بفاجعة غيابه. وعندما وجدتُني مجبرةً على المشاركة في الذكرى الأربعين لتأبين نزار، كتبتُ ما أبكى الحضورَ وجَعَلَ سهيل إدريس، رحمه اللّه، يُجْهش بالبكاء ويسألني: "وأنا ماذا ستكتبين إذنْ في رثائي؟"
كان سهيل إدريس جاهزًا ليتظاهرَ بالموت كي يختبرَ مَنْ أَحَبَّه من كُتّابه، ويتمنّى لو قرأ رثاءهم فيه؛ فوحده الوفاءُ كان يَعْنيه. وكنتُ أَرُدُّ ممازحةً: "مشكلتي يومَها أنّني لن أدري مَنْ أَقْصد ليصحِّحَ لي أخطائي النحويّةَ حتى لا ألحَنَ وأنا أُلقي كلمتي في رثائك!". فيَضْحك، رحمه اللّه، ضحكتَه الجميلةَ تلك، ويقول: "إعطيني إيّاها بصحِّحها هلّق أحسَنْ ما تِنْفِضْحي بعدين!".
يا اللّه كم أحبّه، وكم أنا مدينةٌ له، ذلك الكبير الذي كثيرًا ما صحَّح أخطائي النحويّة. لكنْ شفَعَ لي في قلبه أنّني لم أخطئْ يومًا في حقِّ أُبوّته، ولا أَخطأتُ الطريقَ إلى ما أراد لي من مقامٍ أدبيّ وخلقيّ.
* * *
لم أبكِ سهيل إدريس؛ فالحزنُ الكبيرُ لا دموعَ له. ولم أكتب عنه شيئًا أيضًا؛ فالرثاء ليس واجبًا عاطفيّاً. علاقتي بالدكتور سهيل إدريس أجملُ من أن أَستبيحَ شاعريتَها بمزاحمة الآخرين في الكتابة عنه، لملء أعمدة الصفحات الثقافية. أُحبُّ أن أبكي مَنْ أحبُّ خارج المناسبات.
ثم ما جدوى أن أكتبَ هذا المقالَ ما دام لن يقرأه؟ فلطالما كتبتُ لإدهاشه هو بالذات، طمَعًا في مسبّاته المحبَّبة إلى قلبي حين يصيح بلهجته البيروتية، وأنا أَعْرض عليه نصَّ روايتي الجديدة أو عنوانَها: "يحرق... وين لاقيتيه عنوان عابر سرير؟!"
كم كنتُ أُحبُّ فَرَحَهُ بي، وأَقيسُ بنبرته جودةَ نصّي، وأطمئنُّ إلى مكانتي في قلب الأدب استنادًا إلى مكانتي في قلبه. فقد كان صاحبُ دار الآداب هو الأدبَ بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمةُ في قاموس المنهل الذي هو صاحبُه ومؤلِّفه.
* * *
سيّدُ اللغة، أيّةُ كلمةٍ تناسب غيابَه؟ "رحل"؟ "مات"؟ "غاب"؟ "توفِّي"؟ "غيّبه الموت"؟.. وكيف يموتُ مَنْ أنجب جيلاً من الكتّاب؟
كان سهيل إدريس أبًا لذرّيّةٍ أدبيةٍ، على تفاوتِ أسمائها وأقلامها وتاريخها، صَنَعتْ شهرتَها ونجوميَّتها بعبور بوّابة دار الآداب. أيُّ مَجْدٍ أن تكون في دارٍ مرّ بها نزار قبّاني ونجيب محفوظ وغادة السمّان وأدونيس ومحمود درويش!
ولأنّ قرابةَ الحبر أقوى من قرابة الدم، فإنّ الدكتور سهيل إدريس لم يكن ناشري، بل أحدُ آبائي، والرجلُ الذي شارك في صنع ضميري، وفي الحفاظ على استقامة خطّي القومي. كان قُدوتي في دفاعه عن قيمٍ مهدَّدةٍ، وقضايا مفْلسةٍ، إلى حدِّ دَفْعِ ثمنها من صحّته ومكاسبه.
ما تلوَّثَ قلمُه بما تدفَّقَ في جيوب غيره. ما تجرَّأَ أحدٌ على عرض شراء صمته؛ فمبادِئُه ما كانت للبيع. لذا ترك لأبنائه إرثَ القيم، وعَلَّم ذريَّتَه الأدبيةَ ألاّ تنحني.
ما وقف يومًا على قارعة المواقف؛ كان هو الموقفَ! لذا رَحَلَ واقفًا، نظيفًا، شريفًا، مريضًا بالداءِ الـمُزمنِ نفسِه الذي أودى بجيله: داءِ القومية.
هو الروائي. أَخفَوْا عنه الفصلَ الأخيرَ من رواية الأمة العربية. مَنَعوا عنه جهازَ التلفزيون كي يَحْجبوا عنه ما آلت إليه أحلامُه. كم كان سيبكي وجثمانُه يَعْبر في بيروتَ شوارعَ الكراهية!
أفكِّر في ذلك المشهد، وأحمد اللّه أنّني لم أكن في بيروت لأراه يَعْبر مُدْبِرًا. فقد رأيتُه دومًا مُقْبلاً؛ ذلك أنّ النبل لا يُولي ظهرَه.
أفكِّر في سماح ورنا ورائدة ورفيقةِ عمره عائدة: كيف تسنّى لهم المشيُ خلفَه؟ وتَحْضرني هدباءُ عندما سألتْ والدَها نزارًا: "بابا، كيف استطعت أن تمشي خلف جثمانِ توفيق؟" فأجابها بقلب الأب المفجوع: "أنا ما كنتُ أمشي خلفه... كنتُ أمشي معه."
لكأنّنا الآن لا نحكي عنه، بل في حضرته. فما كان الدكتور سهيل إدريس رَجُلاً واحدًا ليموت دفعةً واحدة. بل لتعدّده، يَحْضرني الآن أكثرَ، كما لو كان يختبر وفائي له في كلِّ ما أُقْدِمُ عليه.
* * *
هو أكثرُ قسوةً عليَّ اليوم. هو أكثرُ صرامةً. اليومَ هو قلّما يمازحني، أو يسرقُ قبلةً على خدّي كما كان يفعل. إنّه الآن يعود ليحاسبني. مُذ غيّبَه الموتُ، ما عاد ناشري، بل صار أبي.
كثيرٌ ما أخذتَ لي من آباءٍ، أيها الموت!
كان سهيل إدريس جاهزًا ليتظاهرَ بالموت كي يختبرَ مَنْ أَحَبَّه من كُتّابه، ويتمنّى لو قرأ رثاءهم فيه؛ فوحده الوفاءُ كان يَعْنيه. وكنتُ أَرُدُّ ممازحةً: "مشكلتي يومَها أنّني لن أدري مَنْ أَقْصد ليصحِّحَ لي أخطائي النحويّةَ حتى لا ألحَنَ وأنا أُلقي كلمتي في رثائك!". فيَضْحك، رحمه اللّه، ضحكتَه الجميلةَ تلك، ويقول: "إعطيني إيّاها بصحِّحها هلّق أحسَنْ ما تِنْفِضْحي بعدين!".
يا اللّه كم أحبّه، وكم أنا مدينةٌ له، ذلك الكبير الذي كثيرًا ما صحَّح أخطائي النحويّة. لكنْ شفَعَ لي في قلبه أنّني لم أخطئْ يومًا في حقِّ أُبوّته، ولا أَخطأتُ الطريقَ إلى ما أراد لي من مقامٍ أدبيّ وخلقيّ.
* * *
لم أبكِ سهيل إدريس؛ فالحزنُ الكبيرُ لا دموعَ له. ولم أكتب عنه شيئًا أيضًا؛ فالرثاء ليس واجبًا عاطفيّاً. علاقتي بالدكتور سهيل إدريس أجملُ من أن أَستبيحَ شاعريتَها بمزاحمة الآخرين في الكتابة عنه، لملء أعمدة الصفحات الثقافية. أُحبُّ أن أبكي مَنْ أحبُّ خارج المناسبات.
ثم ما جدوى أن أكتبَ هذا المقالَ ما دام لن يقرأه؟ فلطالما كتبتُ لإدهاشه هو بالذات، طمَعًا في مسبّاته المحبَّبة إلى قلبي حين يصيح بلهجته البيروتية، وأنا أَعْرض عليه نصَّ روايتي الجديدة أو عنوانَها: "يحرق... وين لاقيتيه عنوان عابر سرير؟!"
كم كنتُ أُحبُّ فَرَحَهُ بي، وأَقيسُ بنبرته جودةَ نصّي، وأطمئنُّ إلى مكانتي في قلب الأدب استنادًا إلى مكانتي في قلبه. فقد كان صاحبُ دار الآداب هو الأدبَ بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمةُ في قاموس المنهل الذي هو صاحبُه ومؤلِّفه.
* * *
سيّدُ اللغة، أيّةُ كلمةٍ تناسب غيابَه؟ "رحل"؟ "مات"؟ "غاب"؟ "توفِّي"؟ "غيّبه الموت"؟.. وكيف يموتُ مَنْ أنجب جيلاً من الكتّاب؟
كان سهيل إدريس أبًا لذرّيّةٍ أدبيةٍ، على تفاوتِ أسمائها وأقلامها وتاريخها، صَنَعتْ شهرتَها ونجوميَّتها بعبور بوّابة دار الآداب. أيُّ مَجْدٍ أن تكون في دارٍ مرّ بها نزار قبّاني ونجيب محفوظ وغادة السمّان وأدونيس ومحمود درويش!
ولأنّ قرابةَ الحبر أقوى من قرابة الدم، فإنّ الدكتور سهيل إدريس لم يكن ناشري، بل أحدُ آبائي، والرجلُ الذي شارك في صنع ضميري، وفي الحفاظ على استقامة خطّي القومي. كان قُدوتي في دفاعه عن قيمٍ مهدَّدةٍ، وقضايا مفْلسةٍ، إلى حدِّ دَفْعِ ثمنها من صحّته ومكاسبه.
ما تلوَّثَ قلمُه بما تدفَّقَ في جيوب غيره. ما تجرَّأَ أحدٌ على عرض شراء صمته؛ فمبادِئُه ما كانت للبيع. لذا ترك لأبنائه إرثَ القيم، وعَلَّم ذريَّتَه الأدبيةَ ألاّ تنحني.
ما وقف يومًا على قارعة المواقف؛ كان هو الموقفَ! لذا رَحَلَ واقفًا، نظيفًا، شريفًا، مريضًا بالداءِ الـمُزمنِ نفسِه الذي أودى بجيله: داءِ القومية.
هو الروائي. أَخفَوْا عنه الفصلَ الأخيرَ من رواية الأمة العربية. مَنَعوا عنه جهازَ التلفزيون كي يَحْجبوا عنه ما آلت إليه أحلامُه. كم كان سيبكي وجثمانُه يَعْبر في بيروتَ شوارعَ الكراهية!
أفكِّر في ذلك المشهد، وأحمد اللّه أنّني لم أكن في بيروت لأراه يَعْبر مُدْبِرًا. فقد رأيتُه دومًا مُقْبلاً؛ ذلك أنّ النبل لا يُولي ظهرَه.
أفكِّر في سماح ورنا ورائدة ورفيقةِ عمره عائدة: كيف تسنّى لهم المشيُ خلفَه؟ وتَحْضرني هدباءُ عندما سألتْ والدَها نزارًا: "بابا، كيف استطعت أن تمشي خلف جثمانِ توفيق؟" فأجابها بقلب الأب المفجوع: "أنا ما كنتُ أمشي خلفه... كنتُ أمشي معه."
لكأنّنا الآن لا نحكي عنه، بل في حضرته. فما كان الدكتور سهيل إدريس رَجُلاً واحدًا ليموت دفعةً واحدة. بل لتعدّده، يَحْضرني الآن أكثرَ، كما لو كان يختبر وفائي له في كلِّ ما أُقْدِمُ عليه.
* * *
هو أكثرُ قسوةً عليَّ اليوم. هو أكثرُ صرامةً. اليومَ هو قلّما يمازحني، أو يسرقُ قبلةً على خدّي كما كان يفعل. إنّه الآن يعود ليحاسبني. مُذ غيّبَه الموتُ، ما عاد ناشري، بل صار أبي.
كثيرٌ ما أخذتَ لي من آباءٍ، أيها الموت!
عند مسافةٍ وسطيّةٍ بين قبرِه وقبرِ نزار وقبرِ أبي، وضعتُ مكتبي. وعليّ أن أسألهم واحدًا واحدًا بعد الآن: ـ "بابا الدكتور سهيل إدريس.. هل أنت راضٍ عن هذا النصّ؟ وهل أنت سعيدٌ بي لأنّني ما زلتُ أرفض الجلوس على المبادئ، كما علّمتَني؟" ـ "وأنتَ، نزار... الآن وقد باعَدَنا الموتُ.. دعني أُناديكَ أبي. لا تضحكْ. أما قلتَ لي إنّ كلَّ مبدع يتيم؟ أبي نزار... أما زال بإمكاني أن أدوِّخَكَ بروايةٍ جديدة؟ أمّ أنَّني كتبتُ مرّةً ما جعلكَ تَندم على شهادتِكَ بي؟" ـ "وأنت، أبي محمد الشريف.. أما زلتَ تقول هناك إنّكَ ما جئتَ إلى العالم إلاّ لتُنْجبَني؟ أمْ أنَّني خُنْتُ حلمَكَ بي.. وأخجلتُكَ يومًا أمام رفاق التراب؟"
* * *
يا إلهي... ما أصعبَ البقاءَ عند حسنِ ظنِّ الموتى بنا! يا إلهي... ما أصعبَ أن يُسْنِدَ المرءُ ظهرَه إلى قبورِ مَنْ يحبّ، كلّما جَلَسَ ليكتب!
* * *
يا إلهي... ما أصعبَ البقاءَ عند حسنِ ظنِّ الموتى بنا! يا إلهي... ما أصعبَ أن يُسْنِدَ المرءُ ظهرَه إلى قبورِ مَنْ يحبّ، كلّما جَلَسَ ليكتب!
بيروت
0 التعليقات: